حزب التجديد الإسلامي

وبخصوص الأحداث المشار إليها في هذه الآية الكريمة، فقد وقع إذن الله لها بالوقوع فعلاً، لأن الكلام كله متعلق بمصائب قد حدثت وانتهى أمرها، فأصبحت في كتاب آخر، هو كتاب ما مضى وانقضى، تماماً كما قال موسى عن القرون الأولى: ﴿عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى٥٢﴾. وذلك صحيح مطابق لتوصيفنا الصحيح للعلم الإلاهي: (إن الله يعلم ما كان، وما هو كائن، وما يمكن أن يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون).
أما بالنسبة للمكلفين من الإنس والجن وغيرهم فإن كانوا فاعلين باختيار حقيقي، وهذا هو الحق الذي يجب القول به بشهادة القرآن: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ﴾، وفي ما لا يحصى من آيات القرآن الأخرى، فكذلك من المحال أن تُعلم الافعال الإختيارية بأعيانها إلا بعد انعقاد الإرادة ومباشرة الفعل من فاعله، وإلا لكان شعور المُكَلف بالحرية وهماً ولكان القرآن كذباً.
وهذا إنما كان بضمانة الله سبحانه وتعالى وبإذنه الكوني: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ٢٨ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢٩﴾. وتفسير ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢٩﴾ هو وما تشاؤون إلا بإذن الله الكوني لكم بالمشيئة وذلك:
(1) - بتقديره الكوني الأول بخلق كائنات لها حرية اختيار حقيقي، وقراره السابق بالتخلية بين تلك الكائنات وبين أفعالها الاختيارية على وجه الإجمال؛
(2) - واذنه لها عند كل فعل بعينه بممارسة إرادتها. وبذا فمعنى قوله: ﴿إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢٩﴾، وهو، ضرورةً ولابد، إلا أن يأذن الله لكم بممارسة الاختيار، أيّاً ما كان هذا الاختيار.

فمن المحال أن يكون الله قد أراد الاستقامة لشخص معين أراد الإستقامة لنفسه لإن إرادة الله الكونية سابقة على إرادة العبد ونافذة لا محالة، وكافية في ذاتها لحصول مرادها، فلا معنى لإرادة العبد حينئذ مطلقاً، ولا تأثير لها البتة، ويصبح ذكر القرآن لإرادة العبد لغواً لا معنى له. فالصحيح أن الله جلّ جلاله فقط أذن للعبد أن يختار، أيّاً ماكان هذا الاختيار، فالمختار والمريد هو العبد، والآذن المهيمن هو الرب.
ويجدر بهذه المناسبة أن نؤكد أن نسبة (المشيئة) أو (الإرادة) إلى الله سبحانه وتعالى في القرآن، قد تكون بمعنى (الإذن) بوقوع فعل من فاعل آخر (وهذا الفاعل الآخر قد يكون مذكوراً في النص، أو لم يذكر لاسباب بيانية أو بلاغية)، وليس بمعنى إرادة الفعل أو مباشرته من الله تعالى. ولعل ذلك هو الأكثر والإغلب في القرآن. مثال ذلك: ﴿وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ٢٥٣﴾، معنى ذلك أن الله أذن لهم – إذناً كونياً، وليس إذناً شرعياً - أن يقتتلوا، وهم الذين اقتتلوا بمشيئتهم وإرادتهم واختيارهم، ولكن الله يأذن بوقوع مثل هذا في الكون كما يريد، لأن وقوع مثل هذا بدون إذنه في الكون مَحال. فالقاعدة اليقينية المطلقة هي أن لله الهيمنة الكونية المطلقة: فلا يقع شيء إلا بإذنه، لا يدركه طالب، ولا يغلبه غالب، ولا يهرب من هارب.

تعليقات